الدفتر القديم
خيري رمضان
كانت المسافة بيني وبين هذا الدفتر القديم ما لا يزيد علي نصف متر, ملقي مهملا في درج سفلي ملاصق لسريري.. وكانت المسافة بيني وبين ما في هذا الدفتر القديم أكثر من عشر سنوات.
لا أعرف ما هذه الرائحة التي تسللت إلي أنفي, رائحة قديمة دافئة, دفعتني إلي أن أمد يدي, أعبث في الأوراق المتراكمة داخل الدرج المهمل, لأخرج ظافرا بهذا الدفتر الصغير القديم.
صوت قلبي يرج جسدي المنهك, خوف ما, حزن ما يتسلل داخلي, وعيناي تصطدمان بحروف وأرقام وأسماء وكلمات سقطت من ذاكرتي, لكنها تطل الآن من بئر عميق في داخل داخلي, ترسم صورا مكتملة أو مهزوزة, محترقا بعضها, كما في الأفلام, أو راقصة في قلبي مذكرة إياي بحكاية كانت جميلة.
من صاحبة هذا الاسم الجميل, ولماذا كتبت بجوارها صباح جميل؟ هل كان جميلا؟!.. ربما, أكيد, المهم أنه مضي, ومضت صاحبته دون أن تسقط في صورة تقاوم كل هذا الزمن.. يصادفنا في الحياة بشر, نصنع منهم صباحات ومساءات تبدو جميلة ـ مؤقتا ـ لكن عندما يختفون نكتشف كم كنا نصنع وهم سعادتنا بأيدينا عندما نفقد المقدرة علي السعادة الحقيقية!
وهذه, ياااه, أذكر هذه الفتاة جيدا, كانت جميلة وناعمة وبريئة, لا تكذب أبدا, هكذا استقبلتها, أحبتني, أحببتها, تقدمت لخطبتها, وبعد الاتفاق علي كل التفاصيل, اعترفت لي بأنها سبق لها أن عقد قرانها علي شخص ما, وخشيت أن تقول لي في بداية العلاقة فأهرب من حبها.. غضبت وثرت ووصمتها بالكذب والخداع, لم أكن أعرف أننا نرتكب خطيئة كبري عندما نجعل من أنفسنا آلهة تحاكم البشر, لكن الإله يغفر, ونحن نمارس الكذب طوال الوقت ونرفضه ونقتل به الآخرين.
وهذه تليفونات صديقي محمد همام, هذا الصحفي اللامع الحالم, الذي أضاع عمره في الغربة, مؤجلا كل أحلامه, وعندما حان وقت القطاف, قطفته من علي رصيف الأحلام سيارة طائشة, مات محمد منذ سنوات وبقيت ورقة فيها اسمه وأرقام هواتفه تحمل نفس ابتسامته ونفس رائحة الأيام.
أسماء وأسماء, وأرقام, وملاحظات, ورق في ورق, هكذا عمري وعمرك, لا نقلب فيه, نطوي أنفسنا وأيامنا وتاريخنا ونضعها جميعا في ورق قديم, تأخذنا السنون, نلهث أمامها نطارد الحياة معتقدين أننا في طريق أجمل, أرحب, ونكتشف في نهايته أننا كنا نلاحق الموت ونهرب من حياة مضت هي أجمل من كل ما هو آت.
مغرية هي لعبة الورق القديم, قذفني الورق إلي ورق, وكانت الصدمة أن حياتي الورقية توقفت منذ سنوات وبالتحديد منذ ظهور المحمول, منذ سنوات ليس لدي إلا رسائل ورقية لا تذكر, أما أغلب الرسائل فإنها محفوظة علي محمولي, رسائل جافة, مهما كان دفء الكلمات, منقولة, منسوخة, مكررة, بضغطة زر واحد تمسح, وإذا أعجبتك رسالة فإن ذاكرة الجهاز ترفض الاختزان. ومن المحمول إلي البريد الإلكتروني يا قلب احزن, فمصيبة المصائب أن يتلف محمولك أو يسرق أو يصيب بريدك الإلكتروني فيروس لعين وهكذا في غمضة عين تصبح أيامك وأحلامك وأسرارك وتاريخك في خبر كان, حتي كان لن تجدها.
كم أنا في شوق الآن إلي بشر جديد يكتب معي تاريخا لما تبقي من أيام, تاريخا من ورق, يسرقني العمر, فأعود إليه أشم فيه تلك الرائحة, ويرتفع نبض القلب, وأعيد رسم الوجوه والحكايا, فأحس أني عشت يوما وعاش في داخل داخلي كل الذين أحببتهم وأحبوني